ثقافة التطبيع 2009.11.22
بقلم: أحمد منصور
نجح النظام في أن يختزل الانتماء لمصر في رفع الأعلام والتعصب لمباراة كرة قدم ضد بلد وشعب شقيق. بعدما حدث في 14 نوفمبر أشعر أن كل المصلحين الذين يريدون أن ينهضوا بهذا الشعب إنما يحرثون في البحر
*
*
كنت مستغرقا في قراءة تقرير معمق عن أوضاع مصر الاقتصادية كتبه جاك شانكر في صحيفة الجارديان البريطانية ونشرته صحيفة "الشروق" المصرية يوم السبت 14 نوفمبر حينما ترامت لمسامعي حيث كنت في القاهرة أصوات صاخبة لصراخ وهتافات وأبواق سيارات وإطلاق ألعاب نارية تشير إلى أن الفريق المصري لكرة القدم الذي كان يلعب مع فريق الجزائر في ذلك الوقت قد أحرز هدفا في مرمي الفريق الجزائري ضمن من خلاله مباراة أخرى فاصلة في السودان، وأذكر أنني في ذلك اليوم الذي وصلت قبله بيوم واحد إلى القاهرة أني حينما كنت أمارس رياضة المشي في الصباح الباكر حول إحدى حدائق القاهرة القليلة الباقية من زمن مصر الجميل رأيت من بعيد رجلا يبدو حسن الهندام يبحث في أحد صناديق الزبالة التي توجد حول الحديقة، وهذا أمر أصبح مألوفا في القاهرة بشكل كبير؛ أن تجد من يبحث عن شيء في صناديق الزبالة ولكن ليس حسن الهندام كما رأيت، وحينما اقتربت كان الرجل الذي كان يتلفت بحذر حوله وكأن الأمر جديد عليه أو يخشى أن يراه أحد يعرفه كان يفرغ الأكياس من محتوياتها بسرعة ويبحث عن أي شيء نافع له فيها يضعه في كيس كان يحمله، ورغم أني أغض الطرف عادة إذا رأيت ما يسبب الحرج فإن حُسن هندام الرجل مع ما يقوم به دفعني للفضول وأن أبطئ الخطى لأعرف ما الذي يبحث عنه الرجل في صندوق الزبالة.
*
عجبت لما رأيته يضع في كيس البلاستيك الذي كان يحمله زجاجات مياه شرب بلاستيكية فارغة كما وجدته مشغولا بالبحث في علبة دواء فارغة ربما وجد بقايا دواء فيها حيث كان يقرأ ما عليها، ولاحظت أنه كان يفتح أكياس الزبالة التي في الصندوق ويفرغها بسرعة ثم يمد يده بسرعة لشيء ما يفتحه وإما يضعه في الكيس البلاستيكي أو يلقيه مرة أخرى في الصندوق، لاحظ الرجل أني أراقبه فبدا عليه الحرج وأعطاني ظهره بعدما نظر إليّ نظرة ربما بها ألم أو حسرة أو لوم، لكن المشهد برمته ألقى في نفسي ألما شديدا أن أصبح حسنو الهندام يبحثون في أكياس الزبالة في مصر عن شيء، أي شيء فأدركت أن الأمر قد وصل إلى درك خطير.
*
من جانب آخر، فإني أذكر أنني لم أفلح في ذلك اليوم في قضاء كثير من المصالح التي سعيت لقضائها حيث كان الجميع في مصر مشغولا بمباراة كرة القدم بين مصر والجزائر، والرياضة شيء محبب ومهم لدى الشعوب لكنني شعرت أن الأمر قد تجاوز الرياضة ليصبح هو كل شيء في حياة المصريين، فقد خرج الناس من كل همومهم أو هربوا منها بمفهوم أدق وسعوا للخروج من الإحباط الذي يعيشون فيه أو جعلتهم حكومتهم يعيشون فيه ليكون كل هدفهم أن تفوز مصر على الجزائر في مباراة كرة قدم حتي تسترد مصر عزتها وكرامتها وريادتها وسيادتها كما يتوهم هؤلاء، كل هذا في بلد كما يقول جاك شانكر: يصل الحد الأدني للراتب فيه لنسبة عالية من الشعب أربعة جنيهات إسترلينية في الشهر، بينما نسبة الفقر المدقع وصلت إلى 20 % من السكان، بينما 40 % لا تزيد دخولهم على دولار واحد شهريا، هؤلاء جعلوا كل همهم أن يهزموا الجزائر في مباراة كرة قدم لا أن يهزموا الفقر الذي يزحف على من بقي من نسبة 90 % من الشعب لا تستفيد الوفرة المالية التي تصب في جيوب 10 % فقط من المحظوظين من أبناء النظام وحوارييه، وفي وقت لا يجد القطيع أنابيب الغاز المنزلي لا يحظي مُلاك مصانع الحديد والسماد الذين ينتمون لنسبة الـــ 10 % المحظوظة بأسعار مدعمة للغاز وحدهم، بل إن الإسرائيليين الذين سفكوا دماء المصريين في أربعة حروب ومازالوا يسفكون دماء الجنود المصريين على الحدود من آن لآخر يحظون بأسعار مدعمة للغاز المصري لا يحصل عليها أي من أبناء القطيع الذي اختزل الانتماء للوطن والعطاء للوطن والجهاد من أجل بناء الوطن في مباراة كرة قدم ضد فريق بلد عربي ساهمت مصر بل قامت بالدور الرئيسي في تحريره واستقلاله قبل خمسين عاما.
*
لقد نجح النظام الذي أفقر الشعب وأمرضه ودمر الإنسانية والآدمية فيه أن يختزل المواطنة والانتماء وحب مصر لدي المصريين في رفع الأعلام والتعصب لمباراة كرة قدم ضد بلد وشعب شقيق، واعتبر النصر فيها أكبر من الانتصار على إسرائيل وعلى الفقر والفساد والمرض الذي يفترس هذا القطيع، وهذا الأمر بهذا الشكل وهذه الطريقة يمثل واحدة من أعلى درجات الإفساد للمجتمع وللانتماء وللمواطنة؛ لأن ما يحدث ليس سوى عملية تفريغ لمصر من حاضرها ومن تاريخها ومن أزماتها التي سببها النظام الفاسد الذي يحكم، ودليل على أن هذا الشعب يريد أن يهرب من أزماته التي ليس أولها أزمة تراكم الزبالة في شوارع العاصمة الكبرى، أو أن صناديقها أصبحت مصدرا لطعام كثيرين أو تفشي الفساد والبطالة وري المحاصيل الزراعية بمياه المجاري واختلاط مياه المجاري بمياه الشرب وتفشي التيفود والأمراض القاتلة بين أبنائه.
*
لقد شعرت بهمٍّ وحزن شديدين على ما آل إليه مصير الشعب المصري وأنا أحد أبنائه، حينما وجدت المصريين يهربون من هموم وطنهم بهذه الطريقة، طريقة ثقافة القطيع، وشعرت إلى أي مدى نجح الحكام الذين دمروا آدمية هذا الشعب علي مدي العقود الستة الماضية أن يحولوا المبدعين من أبناء هذا الشعب إما إلى مهاجرين يفيدون العالم بما لديهم من علم وإبداع وإما إلى محبطين في بلادهم يحاولون الحفاظ على ما تبقي من خيرية الأمة وعلمها وثقافتها، أما باقي الشعب فقد أصبح ملهاة وأداة للتسلية والفرجة.
*
لقد تحولت حقيقة المواطنة والانتماء من بذل وعرق وبناء للأوطان إلي ثقافة رفع الأعلام في الشوارع والهتاف لفريق كرة قدم، بينما التخريب في كل مناحي الحياة في بلادهم يتم تحت أعينهم فيشاركون فيه أو يسكتون عن إيقاف المخربين.
*
أشعرني ما حدث في مصر في الرابع عشر من نوفمبر 2009 أن كل المصلحين الذين يريدون أن ينهضوا بهذا الشعب إنما يحرثون في البحر، وأن هناك آمادا واسعة بين هذا الشعب وبين خروجه من هذا المستنقع الذي يعيش فيه 90 % من أبنائه وفقا لما ذكره جاك شانكر نقلا عن تقرير حكومي رسمي مصري مهم لم يعرف هذا الشعب شيئا عنه أعدته هيئة الاستثمار التابعة للحكومة المصرية.
*
حتي لو فازت مصر في مباراتها مع الجزائر، وشاركت في مباريات كأس العالم، وماذا لو فاز الفريق المصري بكأس العالم في كرة القدم بينما 90 % من الشعب المصري فقراء أو في طريقهم إلى الفقر والمرض؟! حسب التقارير الاقتصادية ومنها تقارير رسمية، ما العائد علي هذا القطيع الذي يأكل الفقر والمرض في جسده بينما يستنفد كل طاقته ليس في القضاء علي الفقر والمرض أو الذين سببوه وإنما في التصفيق والهتاف لفريق كرة قدم؟
*
كانت أصوات أبواق السيارات تتعالي في الشوارع المحيطة بمنزلي، وكذلك أصوات الهتافات، بينما كنت أعيد قراءة ما كتبه جاك شانكر عن هؤلاء السكارى، وأنا أدرك حجم السعادة الغامرة التي عمت نفوس ناهبي هذا الشعب ومصاصي دمائه أن أوصلوه إلي هذا الحد من السفه والحيرة والتفاهة والضياع، ثم استغرقت مثل كثير ممن يحبون مصر ويعرفون معني الانتماء والمواطنة إليها في همٍ عميق.