ابن فارس
نسبه وموطنه:
هو أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد بن حبيب، أبو الحسين، الرازي، القزويني، المعروف بالرازي، المالكي، اللغوي، صاحب "المجمل" في اللغة.
وقد ادّعى ابن الجوزي في "المنتظم" أن اسمه: أحمد بن زكريا بن فارس، ولكن هذه التسمية وذلك القول - بحسب تعبير ياقوت في رده على ابن الجوزي - لا يعاجّ به.
وفي تاريخ ولادته فلم نجد أيا من كتب التراجم - على كثرة تلك التي ترجمت له - ذكرت أو عينت تاريخا لذلك.
وفي موطنه فقد ذكر الذهبي في تاريخه وفي سيره أنه ولد بقزوين ونشأ بهمذان، فهو نزيل همذان، وكان أكثر مقامه بالري، وقد نسب إليها، وذكر ذلك أيضا ابن تغري بردي في "النجوم الزاهرة"، والرافعي في "التدوين في أخبار قزوين"، وقال (الرافعي): "وله بقزوين في الجامع صندوق فيها كتب من وقفه، سنة إحدى وستين وثلاثمائة".
إلا أن ياقوت ذهب إلى غير ذلك حين قال في معجمه: "وجدت على نسخة قديمة بكتاب المجمل، من تصنيف ابن فارس ما صورته: تأليف الشيخ أبي الحسين، أحمد بن فارس بن زكريا الزهراوي، الأستاذ خرزي، واختلفوا في وطنه، فقيل: كان من رستاق الزهراء، من القرية المعروفة بكرسفة وجياناباذ، وقد حضرت القريتين مراراً، ولا خلاف أنه قروي. حدثني والدي محمد بن أحمد، وكان من جملة حاضري مجالسه، قال: أتاه آت فسأله عن وطنه، فقال: كرسف، قال فتمثل الشيخ:
بلاد بها شُدّت على تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
وكتبه مجمع بن محمد، بن أحمد بخطه، في شهر ربيع الأول، سنة ست وأربعين وأربعمائة".
ولعل كثرة تنقلات أبي الحسين بن فارس في بلاد شتى - على نحو ما سيأتي - هو ما جعل هذا الخلاف قائما في عدم معرفة وطنه الأول على وجه الدقة، وإن كنا نراه كما ذكرناه أولا من أنه ولد في بقزوين ونشأ بهمذان، وكان أكثر مقامه بالري، وإلى ذلك ذهبت أكثر كتب التراجم.
نشأته ومذهبه وصفاته:
رغم أنه ولد بقزوين إلا أن ابن فارس كان قد استقر به المقام بعض الشيء في همذان، وفي ذلك يقول ابن خلكان: "وكان مقيماً بهمذان، وعليه اشتغل بديع الزمان الهمذاني - كما سيأتي في موضعه - صاحب المقامات".
وإنه لما اشتهر أمره بهمذان وذاع صيته بها، استدعي منها إلى بلاط آل بويه بمدينة الري، ليقرأ عليه أبو طالب بن فخر الدَّولة علي بن ركن الدَّولة الحسن بن بويه الدَّيلمي، فسكنها، وحصل بهما مالاً، وبرع ذلك الأمير في الأدب.
وهناك وفي مدينة الري التقى بالصاحب إسماعيل بن عباد (هامش: هو أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن العباس بن عباد، أول من لقب بالصاحب من الوزراء، وذلك لأنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد، فقيل له: "صاحب ابن العميد"، ثم أطلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة، وبقي علماً عليه، وقيل: إنما سمي الصاحب لأنه صحب مؤيد الدولة أبا منصور بويه بن ركن الدولة بن بويه الديلمي، وتولى وزارته بعد أبي الفتح علي بن أبي الفضل بن العميد، فلما توفي مؤيد الدولة في سنة 373 بجرجان استولى على مملكته أخوه فخر الدين أبو الحسن علي، فأقر الصاحب على وزارته، توفي سنة 385 بالري)، والذي كان يبغي صلته وهو بمدينة همذان، حتى لقد أنفذ إليه منها كتاباً من تأليفه، هو "كتاب الحجر"، والذي لم تطب به نفس الصاحب فقال: رد الحجر من حيث جاءك، ثم أيضا لم تطب نفسه بتركه فنظر فيه، وأمر له بصلة، وكان سبب ذلك هو انتساب ابن فارس إلى خدمة آل العميد، وتعصبه لهم.
ثم إن الصاحب في هذه الآونة كان قد زال ما بينه وبين ابن فارس من انحراف، واصطفاه حينئذ، وأخذ عنه الأدب، واعترف له بالأستاذية والفضل، وكان يقول فيه: "شيخنا أبو الحسين ممن رزق حسن التصنيف، وأمن فيه من التصحيف".
وبعد أن استوطن الري كان أن انتقل ابن فارس من مذهب الإمام الشافعي إلى مذهب الإمام مالك في الفقه، وذلك في آخر عمره، وحين سُئل عن ذلك أجاب: "أخذتني الحمية لهذا الإمام المقبول على جميع الألسنة أن يخلو مثل هذا البلد عن مذهبه؛ فإن الري أجمع البلاد للمقالات والاختلاف".
وإلى جانب ذلك فقد كان ابن فارس يرى نحو الكوفة وكان يقول: "ما رأيت مثل أبي عبد الله أحمد بن طاهر المنجم ولا رأى هو مثل نفسه".
وعن صفاته الخُلُقية، فقد غلب على ابن فارس صفة الكرم والجود، لدرجة أن لا يبقي معه شيئاً، وربما سئل فيهب ثياب جسمه وفرش بيته، قال سعد بن علي الزنجاجي: "وكان ابن فارس من الأجواد، حتى أنه يهب ثيابه وفرش بيته".
شيوخه:
من أبرز من تعلم منهم وأخذ عنهم ابن فارس كان أبوه فارس بن زكريا، فقد كان عالماً بفنون العلوم، وروى عنه الأئمة، وقد مات ببغداد سنة تسع وستين وثلاثمائة، وكان ابن فارس يحدث عنه، وكان من ذلك أنه قال: سمعت أبي يقول: حججت فلقيت ناساً من هذيل، فجاريتهم ذكر شعرائهم، فما عرفوا أحداً منهم، ولكني رأيت أمثل الجماعة رجلاً فصيحاً وأنشدني:
إذا لم تحظ في أرض فدعها ... وحث اليعملات على وجاها
ولا يغررك حظ أخيك فيها ... إذا صفرت يمينك من جداها
ونفسك فز بها إن خفت ضيماً ... وخلا لدار تنعى من بكاها
فإنك واجد أرضاً بأرض ... ولست بواجد نفساً سواها
وحين رحل ابن فارس إلى قزوين سمع أيضا أبا الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة القطان، الأوحد في العلوم، وقد أكثر ابن فارس من الرواية عنه في كتابه "الصاحبي"، ونص في مقدمة "المقاييس" أنه قرأ عليه كتاب العين المنسوب إلى الخليل، وأيضا سمع علي بن محمد بن مهرويه، وسليمان بن يزيد الفامي القزوينيين.
وكان من شيوخه أيضا عبد الرحمن الجلاب، وأحمد بن حميد الهمذانيين، وأبي الحسن علي بن عبد العزيز صاحب أبي عبيد القاسم ابن سلام، وقد روى عنه ابن فارس كتابَيْ أبي عبيد: غريب الحديث، ومصنف الغريب، كما نص في المقدّمة.
وقد رحل إلى زنجان فأخذ عن أبي بكر أحمد بن الحسن الخطيب راوية ثعلب، ورحل أيضا إلى أبي عبد الله أحمد بن طاهر المنجم، وكان يقول فيه: "ما رأيت مثل أبي عبد الله أحمد بن طاهر المنجم ولا رأى هو مثل نفسه".
وقد رحل ابن فارس أيضا إلى بغداد طلبا للحديث، وفي ذلك يقول عن نفسه: دخلت بغداد طالباً للحديث، فحضرت مجلس بعض أصحاب الحديث وليست معي قارورة، فرأيت شاباً عليه سمة جمال، فاستأذنته في كتب الحديث من قارورته، فقال: من انبسط إلى الإخوان بالاستئذان، فقد استحق الحرمان.
وكان من شيوخه كذلك أبي بكر محمد بن أحمد الأصفهاني، وعلي بن أحمد الساوي، وأبو القاسم سلمان بن أحمد الطبراني، وعلي بن عمر الصيدناني، ومما سمعه منه كتاب مكة لأبي الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي، بسماعه من عبيد بن محمد بن إبراهيم الكشوري الأزرقي.
تلاميذه:
في وصف بليغ لابن فارس قال الذهبي: "وكان رأسا في الأدب... وتخرج به أئمة". فمن أشهر هؤلاء الذين تخرجوا به أديب همذان المعروف بديع الزمان الهمذاني، صاحب المقامات المتقدمة على مقامات الحريري، وذلك حين كان ابن فارس في همذان، حتى إن الثعالبي ذكر في ترجمة بديع الزمان ما نصه: "... وقد درس على أبي الحسين بن فارس وأخذ عنه جميع ما عنده واستفد علمه واستنزف بحره".
وكان ممن تتلمذ أيضا على ابن فارس أبو طالب بن فخر الدَّولة البويهي، والصاحب إسماعيل بن عباد، وذلك حين انتقل إلى الري مقيما بها كما أسلفنا القول، وكان يكرمه ذلك الأخير ويقول: "شيخنا أبو الحسين، ممن رزق حسن التصنيف وأمن فيه من التصحيف".
وقد روى عنه أيضاً أبو سهل بن زيرك، وأبو منصور بن عيسى الصوفي، وحمزة بن يوسف السهمي الجرجاني، والقاضي أبو عبد الله الحسين بن علي الصميري، وأبو منصور بن المحتسب، أبو ذر الهروي، والقاضي أبو زرعة روح بن محمد الرازي، وأبو العباس الغضبان، والقاضي أبو عبد الله الديباجي، وعلي بن القاسم الخياط المقرئ، وقد قرأ عليه كتابه "أوجز السير لخير البشر".
وفاته:
في تاريخ وفاته كان هناك آراء خمسة، يبدأ أولها بسنة ستين وثلاثمائة من الهجرة، وينتهي آخرها بسنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وهذا القول الأخير هو أصح الأقوال وأرجحها؛ وذلك أن أغلب أصحاب التراجم ذهبوا إليه، بل وهناك من حدده فقال سعد بن علي الزنجاجي ونقله عنه الذهبي وكذا أرخه عبد الرحمن بن مندة وغيره - قال: توفي في صفر، سنة خمس وتسعين وثلاثمائة.
بل إن ياقوت في معجمه ذكر أنه عثر على نسخة قديمة من كتاب "المجمل"، وكان في آخرها ما صورته: "قضى الشيخ أبو الحسين، أحمد ابن فارس - رحمه الله - في صفر سنة خمس وتسعين وثلاثمائة بالري، ودفن بها مقابل مشهد قاضي القضاة، أبي الحسن، علي بن عبد العزيز، يعني الجرجاني".
وعن بعض الآراء الأخرى التي أرخت لوفاته قبل ذلك التاريخ قال ياقوت بعد أن عرض لاثنين منها: "وكل منهما لا اعتبار به، لأني وجدت خط كفه على كتاب "الفصيح" تصنيفه، وقد كتبه في سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة".